چکیده :
دأب اكثر المؤرخين على اجترار ما دوّنه اسلافهم في هذا الباب من دون روّية, و هذا ما دعا اكثر المحققين من أهل الانصاف الى تأييد الاصوات المنادية و الداعية الى إعادة كتابة التاريخ , و لعله و بما يُكتب من التاريخ , و بأسلوب جديد, تُصاب المنى , بإزالة بعض من الظلامات التي لحقت بمجتمعنا الاسلامي من جراء تلك الاعمال غير المسؤولة التي قد أتى بها اصحابها لسبب او لآخر ./
و يمكن القول بأن تاريخ التشيع و بلحاظ عام قد اٌصيب بحيف المؤرخين , و لكن هذا الحيف اشد وقعاً على تاريخه في الاندلس من بقية وجوداته في العالم الاسلامي .
حيث حاول اكثر المؤرخين إفهام الناس و من خلال ما كتبوه عن تاريخ الاندلس بأنها - أي الاندلس - أموية الفتح أموية السقوط - إلا أنهم وفي أحسن الاحوال قد ذهبوا الى أنّ من جاء من الحكومات و الدول بعد النهاية الفعلية للوجود الاموي في الاندلس قد نسج على نفس المنوال الذي اثبتت اصوله من قبل الامويين أنفسهم .
/
و على نفس السياق نجد المؤرخين عندما يعرضون لما كان عليه أهل الاندلس من مذهب فأنهم يكادون ان يطبقوا بأنه لا مذهب للاندلسيين إلا مذهب مالك(1), متناسين بذلك جميع الوجودات المذهبية التي عرفها اهل الاندلس , ومن ذلك ما كان عليه بقي بن مخلد في تمذهبه لأبي حنيفة و محاولاته في نشر مذهبه في عهد محمد بن عبد الرحمن الاموي(2) .
و لا نرى تفسيراً لذلك إلا كون الذين دونوا تاريخ الاندلس في تلك الحقبة من الموالين للسلطة الاموية , و بهذا يكون - و بتعبير آخر- تاريخ الاندلس قد كُتب بحسب ما يشتهيه الحكّام الاوائل للاندلس و بما تشتهيه أهواؤهم و ميولهم , و قد جاء الخلف من المؤرخين فأخذوا بالعزف على نفس الاوتار التي صاغها السلف بدون دقّة و لا تمحيص ./
و ما زال اصل البحث عن شيء من تاريخ التّشيع في الاندلس يمكننا القول انه - اي التشيع - قد اخذ طريقه الى الاندلس و دخل ارضها مع الافواج الاولى من المسلمين الذين وطأوا ارض الاندلس في ايام الفتح الاولى و هم يحملون لها الاسلام , حيث نجد جنش الصنعاني الذي كان من التابعين , و من تلامذة و انصار علي بن أبي طالب (ع) و من المحاربين للأمويين في صفّه(3).
/
و كذلك نجد عبد الملك بن قطن و الذي اصبح والياً للاندلس في بعض ايامه (( و قد كان جنود بلج بن بشر الشاميون يذكرون والي الاندلس عبد الملك بن قطن الفهري إنه إنما افلت من سيوفهم يوم الحرّة , و كان ابن قطن قد اشترك في هذه الواقعة في صف الانصار ضد جيش يزيد بن معاوية , و كان جزاؤه على ذلك أن صلبوه و مثّلوا به سنة 123هـ ))(4).
/
و من الامثلة البارزة على وجود المتشييعين في الاندلس و منذ الايام الاولى لتأريخها الاسلامي وجود ابناء عمار بن ياسر(5) المعروف بشدة تشيعه لـ علي بن ابي طالب (ع) و الذي استشهد تحت راية علي في صفين بسيوف الامويين .
و كذلك من المتشيّعين الذين دخلوا الفتح في بدايات الفتح الاسلامي لها ابناء قيس بن سعد بن عُبادة الانصاري (6) والي علي بن ابي طالب (ع) على مصر و الذي يقول :
«و علي إمامنـا و إمـام -
لسوانا أتى به التنزيل.
-
انما قاله النبي على الأمة -
حتم ما فيه قال و قيلُ.» /
و من الداخلين الى الاندلس احفاد مالك الاشتر(7) و قد كان دخولهم بعد حين ./
و الملفت للنظر بأن الداخلين الى الاندلس من المتشيّعين كانوا من البيوتات التي تعتبر في حينها اعمدة و اساطين للتشيّع .
و هذا لا يمكن تفسيره إلا باعتقادهم بأن هناك ارضية مناسبة رغم الوجود الاموي الحاكم هناك , تلك الارضية التي اشار اليها اكثر المؤرخين و هي وجود البربر الذين عُرفوا بكثرتهم اولاً و بتعاطفهم مع اهل البيت (ع) و حبهم لهم ./
و أهم ما يمكن أن يشار اليه بخصوص الداخلين الى الاندلس من المتشيّعين هو دخول هشام بن الحسين بن ابراهيم بن الامام جعفر الصادق (ع) سادس ائمة اهل البيت (ع) الى الاندلس ,و الذي نزل لبلة و تعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشميّ (8) ./
و لم يكتف الوجود الشيعي في الاندلس بدخول المتشيّعين ارض الاندلس بل انه حاول جاهداً الى انتزاع السلطة من يد الامويين و ارجاعها الى من يعتقد حملة التشييع بأنهم الاحق بخلافة المسلمين , و قد تمثلت تلك المحاولة بالثورات المتعددة و المتوالية التي قام بها المتشيّعون هناك , و قد أوصل عدد الثورات الشيعية هناك بعض المعنيّين بالدراسات الاندلسية الى اربعة عشرة ثورة (9) .
كان من اهمّها ثورة عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر , الذي ثار على عبد الرحمن الداخل سنة 143هـ (10) و التي انتهت بمقتل قائدها من قبل عبد الرحمن الداخل .
و ثورة المكناسي و هو شقنا او شقيا بن عبد الواحد المكناسي , و هذا الرجل(ادّعى انه فاطمي تسمّى بعبد الله بن محمد)(11) و كانت ثورته من اخطر الثورات على الامويين و اطولها عمراً و لم يتمكن الامويون من القضاء عليه بالمواجهة المباشرة بل انهم اشتروا بعض الذمم التي دبرت اغتياله سنة 160هـ (12) و قد كانت لهذه الثورة اهمية خاصة حيث انها كادت ان تقيم الحكم الشيعي في الأندلس بوقت يسبق قيام دولة الادارسة الشيعية في المغرب بعشرين سنة./
ومن الثورات الشيعية في الاندلس ثورة معاوية بن احمد القط الذي اظهر التأثر بدعوة الفاطميين بعد قيام دولتهم في المغرب واعلن ثورته سنة 288هـفي منطقة الحوف(13)/
و لكن الثورة الاقوى و الاهم من بين كل الثورات الشيعية في الاندلس هي ثورة ابي الخير و التي ظهرت في عمق الاندلس و كانت ثورة فاطمية اخرى و قد كان زعيمها يذيع بأن قتال بني امية و الفقهاء المالكية افضل من قتال الاعداء و كان يُنقل عنه قوله : (( ما كان أملي من الدنيا إلا خمسة آلاف فارس ادخل بهم الزهراء و اقتل من بها و اقوم بدعوة ابي تميم و كذلك يكون))(14)./
و اذا كانت هذه الثورات الشيعية على ضراوتها وحدة بأسها لم تفلح اولاً في اقتلاع الحكم -الاموي في الاندلس كما تم ذلك لثورات التشيع في المشرق من اقتلاع الحكم الاموي هناك , إلا ان العاقبة كانت للتشيع هناك و قد تسنّى له في آخر المطاف النيل من الامويين و حكومتهم في الاندلس و إقامة الحكم الشيعي على انقاض العرش الاموي هناك , و قد كان هذا على يد رجل يسمى علياً بن حمّود من ولد الادارسة هناك ولاه امر سبتة و طنجة فيما ولىّ اخاه القاسم بن حمّود امر الجزيرة الخضراء(15)./
و يذكر ابن الخطيب (( إن بعض العامريين الموالي , و الصنائع الهاشميين ارسلوا الى علي بن حمّود امير سبتة وثيقة منسوبة الى هشام المؤيد و بخطه عهد فيها بالامر الى علي بن حمود , ثم انهم تعهدوا له بتذليل الصعاب و هونوا له امر الاستيلاء على الخلافة))(16).
و(( اشارعليه اي علي بن حمّود حيوس الضهاجي صاحب البيرة و خيران العامري صاحب المرية,بالتوجّه الى مالقة و الاستيلاء عليها , و لم يتوان عن المجاز الى الاندلس بحجة من هشام المؤيد في الظاهر مع أنه كان يعلم ان هشاماً قد مات مقتولاً, اما غرضه الاساسي الذي كان يضمره في الباطن فهو تقويض خلافة سليمان المستعين والظفربها لنفسه ))(17).
و فعلاً زحف علي بن حمّود نحو المرية و اجتمع مع خيران العامري وغيره من الفتية العامريين , ومن هناك زحف بجيوشه نحو قرطبة بينما تأهب اخوه القاسم لتقديم المساعدات اليه عند الضرورة(18) و قد عرف سليمان المستعين بتحالف خيران العامري مع علي بن حمّود , و علم بمسير جنودهما اليه فعظم عليه الامر , و خرج بمن تبقى من رجاله للقاء جيوش ابن حمّود و اشتبك الفريقان في محرم سنة 407هـ , و لكنه-اي سليمان- إنهزم , و قد قبضوا عليه حياً , و دخل علي بن حمّود قصر قرطبة في 22 محرم , و أمر بإحضار سليمان المستعين فضرب عنقه(19) هذا و قد بويع لعلي بن حمّود في باب السدة من قصر قرطبة , و ذلك في 23 محرم سنة 407هـ و تلقب بالناصر لدين الله أو المأمون أو المتوكل(20), و تملك بنو حمّود الشيعة الادارسة- قرطبة و محوا ملك بني امية(21) و هكذا اختتمت الدولة الاموية حياتها بالاندلس بعد ان عاشت من عصر الامارة حتى نهاية عصر الخلافة مائتين و ثمانية و ستين عاماً./
و حسب ما اثبته بعض المؤرخين من (( ان التشيع الموروث لأولاد ادريس خلد هذه الدولة الأدريسية في المغرب بل سرعان ما انتقلت الى الاندلس لتزيل دولة بني امية))(22)./
1- نفح الطيب ج4 صفحة217 المقري التلمساني , دولة الاسلام في الاندلس ج1 صفحة 266, محمد عبد الله عنان.
2- راجع الاصول الفنية للشعر الاندلسي, د.
سعد اسماعيل شلبي.
3- نفح الطيب ج4 صفحة 605 , المقري التلمساني.
4- التشيع في الاندلس- بحث في مجلة معهد الدراسات المصري في مدريد , د.
محمود علي مكي.
5- المغرب في حلي المغرب ج 2 صفحة 161, ابن سعيد المغربي.
6- العبر ج 4 صفحة 124 ابن خلدون , تاريخ الدول الاسلامية ج 1 صفحة 159 رزق الله المنقريوسي.
7- نفح الطيب ج 4 صفحة 140 , المقري التلمساني .
8- نفح الطيب ج 4 صفحة 140 , المقري التلمساني.
9- راجع أدب التشيع في الاندلس صفحة 38 وما بعد ها , عبد الامير الغزالي.
10- المغرب في حلي المغرب ج2 صفحة 161, ابن سعيد المغربي.
11- الكامل في التاريخ ج3 صفحة 612, ابن الاثير.
12- جمهرة انساب العرب صفحة 78, ابن حزم.
13- التشيع في الاندلس, محمود علي مكي.
14- الاعلام بنوازل الحكّام , قطعة 76 , حوليات تونس لابن سهل.
15- الانيس المطرب صفحة 256 , ابن زرع.
16- اعمال الاعلام صفحة 141 , لسان الدين بن الخطيب.
17- تاريخ المسلمين و اثارهم في الاندلس صفحة 357, د.السيد عبد العزيز سالم.
18- الذخيرة ق 1 , م 2 صفحة 28 , ابو الحسن بن بسام.
19- الذخيرة ق 1 , م 2 صفحة 19 ابو الحسن بن بسام .
20- دائرة المعارف الشيعية م1ج4 صفحة 20, السيد حسن الامين.
21- تاريخ دول الاسلام صفحة 212 , المنقريوسي .
22- دائرة المعارف الشيعية م 1 صفحة 22 نقلاً عن العبر لابن خلدون .